مسألة العلمية في العلوم الإنسانية - التفسير والفهم في العلوم الإنسانية ( الموقف الوضعي - فلهلم ديلتاي - كلود ليفي ستراوس)

فيلوكلوب فبراير 05, 2019 فبراير 05, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A



                         التفسير والفهم في العلوم الإنسانية (أو منهج العلوم الإنسانية بين المنهج التفسيري والمنهج التفهمي)
في دلالة مفهومي التفسير  والفهم

تعريف التفسير: كشف العلاقات السببية الثابتة بين ظاهرتين أو أكثر.
تعريف الفهم: يأتي مقابلا للتفسير، ويشير إلى الـتأويل والتقدير وفهم الدلالات والمقاصد...ويعرفه دلتاي بقوله :" نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف من خلالها ما هو جواني (باطني)، اعتمادا على علامات ندركها بواسطة حواسنا.".

التأطير الإشكالي: إن البحث في المعرفة كموضوع أساسي وكقضية من قضايا البحث الفلسفي، يدفعنا إلى البحث ليس فقط في معرفة الطبيعة وإنما إلى معرفة الإنسان ذاته أيضا. غير أن المعرفة بالإنسان لم تبقى حبيسة التفكير الفلسفي بما هو تفكير تأملي، بل خرجت من رحم الفلسفة باحثة عن العلمية في إطار ما يسمى بالعلوم الإنسانية. هذه الإخيرة وجدت نفسها أمام جملة من الإشكالات تلخصت بشكل عام في قدرتها من عدم قدرتها على تحقيق العلمية، أي إن كانت قادرة على جعل معارفها حول الإنسان معرفة علمية. ولعل من أبرز ما يطرح من إشكالات حين يتعلق الأمر بعلمية العلوم الإنسانية إن كانت قادرة على تفسير ظواهرها كما تفسر ظواهر الطبيعة، عبر كشف القوانين الثابتة المتحكمة فيها، أما أنها لا تقوم إلا بفهمها عبر التأويل وفهم الدلالات والمقاصد. ومنه يحق لنا أن نتساءل: هل لدراسة الظاهرة الإنسانية يمكن اعتماد التفسير بما هو كشف للعلاقات السببية  لظاهرة ما أم أنه لابد من اعتماد الفهم بما هو تأويل وفهم للدلالات والمقاصد؟

الموقف القائل بإمكانية تفسير الظاهرة الإنسانية:
يشير التفسير في العلوم الإنسانية إلى الكشف الموضوعي للعلاقات السببية الثابتة المتحكمة في ظاهرة إنسانية ما، سواء كانت ظاهرة تاريخية، أو اجتماعية أو سكولوجية... وهنا يؤكد بعض من علماء الإنسان على أن تفسير الظاهرة الإنسانية أمر ممكن، وليس بالأمر المستحيل. من بينهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر عالما الإجتماع الفرنسيين أوغست كونت وإميل دوركايم، فقد ذهبا إلى اعتبار الظاهرة الإجتماعية كالظاهرة الطبيعية. وبما أننا يمكننا تفسير الظواهر الطبيعية كسقوط الأجسام مثلا، عبر كشف الأسباب الثابتة المتحكمة في حدوثها، وكما يمكننا التنبؤ بهما، فالظاهرة الإجتماعية كالإنتحار مثلا، هي الأخرى يمكننا تفسيرها عبر كشف الأسباب الثابتة المتحكمة في وقوعها، ويمكننا التنبؤ بها أيضا.
ولتأكيد هذا الموقف يمكن أن تقف عند الظاهرة الإجتماعية التي قام إميل دوركايم بتفسيرها وهي ظاهرة الإنتحار Le suicide، فقد كشف دوركايم عبر الإحصاء عن القانون المتحكم في هذه الظاهرة، وهو أن السبب المتحكم في ظاهرة الإنتحار هو التماسك الإجتماعي، فالتماسك الإجتماعي كلما كان ضعيفا أو قويا يؤدي إلى الإنتحار . فمثلا نجد أن نسبة الإنتحار عند المتزوجين أقل مقارنة بنسبة الإنتحار عند المتزوجين، كما أن المجتمع في حالة الرخاء يكون أكثر عرضة لحالات الإنتحار مقارنة بحالة عدم الإستقرار لأن الناس في الحالة الأخيرة يكونوا في حالة تماسك وتضامن. وحتى في حالة التماسك الإجتماعي القوي يمكن أن يقع الإنتحار، والمثال على ذلك الذين ينتحرون بسبب فقدناهم لشخص ما.
إذن كما أنّه لا يسقط مطر إلا بعد توفر الشروط الموضوعية له، فكذلك الفعل الإنساني لا يقع على أرض الواقع، إلا إذا استنفد كافة الشروط القبلية التي تدفع إلى بروز سلوك وممارسات في الواقع. وبالتالي يمكن كشف الأسباب الثابتة المتحكمة في الظاهرة الإنسانية كشفا موضوعيا.
نقد الموقف: ليس كل علماء الإنسان والإبستمولوجيين متفقون على إمكانية اعتماد التفسير في دراسة الظاهرة الإنسانية، لذلك تعرض أنصار منهج التفسير إلى النقد، ويمكن أن نعبر عن تخوف وتوجس هؤلاء استفهاميا ونتساءل: ألا يمكن أن يؤدي اعتماد المنهج التفسيري إلى إفقار الظاهرة الإنسانية من خصوصياتها وإلى الحد من فعالية الباحث في العلوم الإنسانية؟

الموقف القائل بضرورة اعتماد الفهم بدل التفسير في دراسة الظاهرة الإنسانية.
إن القول بإمكانية تفسير الظاهرة الإنسانية لم يلق ترحيبا من لدن مجموعة من علماء الإنسان، ولعل ما يُجمِع عليه هؤلاء، هو اختلاف الظاهرة الطبيعية عن الظاهرة الإنسانية من حيث الموضوع، وهذا الإختلاف ينتج عنه اختلاف آخر هو اختلاف المنهج.
من بين الذي تبنوا هذا الموقف نجد الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي (1833-1911م) الذي أقام تمييزا بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه به علوم الروح من جهة أخرى على مستوى الموضوع: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الحية. واختلاف الموضوع يفرض اختلاف المنهج. يقول ديلتاي: "إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الظواهر الإنسانية". فإذا كان بإمكاننا دراسة الظاهرة الطبيعية دراسة تفسيرية، فإنه لا يمكن ذلك مع الظاهرة الإنسانية التي ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل. لكن على ماذا يقوم المنهج التفهمي؟ يقوم المنهج التفهمي_التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل والتي تتحدد بالقيم التي توجهه. ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات  بواسطة التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة  في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في ذات الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.
نقد الموقف: لقد تعرض هذا المنهج إلى النقد، حيث أنه يمكن أن يؤدي  إلى طغيان ذات الباحث على الظاهرة المدروسة ، حيث يصعب التمييز بين دلالات الذات الدارسة وبالتالي عدم الإلتزام بمبدأ الحياد القيمي والموضوعية العلمية

الموقف القائل بكون العلوم الإنسانية تقف موقفا وسطا بين التفسير والتنبؤ
بين الموقف القائل بإمكانية التفسير والموقف القائل بعدم إمكانيته، يذهب كلود ليفي ستراوس التأكيد على أن العلوم الإنسانية تقف موقفا محرجا؛ فالعلوم الإنسانية –كما يقول- "تجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ". فالعلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، كما أن أن تنبؤها ليس يقينيا.
وهنا ينطلق ستراوس من مقارنة بين العلوم الدقيقة والطبيعية وبين العلوم الإنسانية، فالأولى تطورت نتيجة التكامل بين عمليتي التفسير والتنبؤ، والمثال على قدرة تلك العلوم على التفسير  ما فعلته الداروينية (نسبة إلى دروين) حيث استطاعت تفسير ظاهرة تطور الأنواع الحية، والمثال على قدرتها على التنبؤ حين تكون عاجزة على التفسير، ما يحدث في علم الأرصاد؛ حيث يمكن التنبؤ بمجموعة من الظواهر.
رغم هذا الموقف المحرج للعلوم الإنسانية، إلا أنها ليست بغير أهمية، فبتفسيرها المحدود، وبتنبؤها غير اليقين، فهي "تقدم للذين يمارسون انطلاقا من نتائجها، شيء وسطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، اي نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء، لكن من غير الفصل النهائي بين التفسير والفهم.
أهمية الموقف.
يعتبر موقف كلود ليفي ستراوس موقفا  قيما، خاصة وأنه موقف يقف موقفا وسطا بين المتحمسين لتفسير الظواهر الإنسانية، وغير المتحمسين. إذ يؤكد على كون الظاهرة الإنسانية ظاهرة صعبة الإخضاع للمنهج التفسير، كما هي صعبة الإخضاع للمنهج التفهمي. وهكذا تكون العلوم الإنسانية بمطالبة باعتماد المنهجين معا. لكن هذا الموقف الوسط يضع العلوم الإنسانية في موقف محرج، حيث يمكن انتقادها نقدا مزدوجا، انتقادها بحجة المتحمسين للتفسير وانتقادها بحجة المتحمسين للفهم. إضافة إلى ذلك فهذا القول يجعل وضعها وضعا يشوبه اللبس والغموض.

خلاصة تركيبية
إن الحديث عن إشكال المنهج في العلوم الإنسانية، وإن كانت العلوم الإنسانية قادرة على تفسير ظواهرها وكشف القوانين العامة مفسرة لحدوثها، قادنا إلى جملة من الخلاصات لعل أبرزها اختلاف علماء الإنسان والإبستمولوجين حول منهج دراسة الظاهرة الإنسانية، وإن كان يفكن تفسيرها أم يجب فهمها فقط، فقد أكد البعض على إمكانية التفسير ، مبررين ذلك بعدم وجود اختلاف بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية. بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بعدم إمكانية التفسير، لاختلاف الإنسان عن الأشياء، وبالتالي وجب اعتماد الفعم فقط بما هو فهم للدلالات والمقاصد... وبين هاؤلاء وهاؤلاء ذهب بعض آخر إلى كون العلوم الإنسانية تقف موقفا محرجة، فهي تارة تعتمد التفسير وتارة تعتمد التنبؤ.
ومن خلال ذلك يمكن أن نؤكد على أن العلوم أن العلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية، فعلى الأقل ليس هناك تطابق، وبالتالي فلا يجب أن يكون بحثها عن العلمية على حساب خصوصية الظاهرة المدروسة، كما لا يجب أن تبقى حبيسة التأمل والفهم.



شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/