المجزوءة: مجزوءة ما الإنسان
المفهوم: مفهوم الرغبة
المحور: الرغبة والإرادة
إنجاز ذ. مراد الكديوى
تأطير إشكالي
ليست
الرغبة مفهوما اعتباطيا. فهي ذات طابع قصدي من حيث أن الإنسان كائن غائي يسعى
لتحقيق غاياته التي تشكل خيره الأعظم ومعنى وجوده. وبذلك تتخذ الرغبة هذا البعد
الغائي هي الأخرى حيث لا تصير مجرد رغبات عفوية بل قصدية تسعى لتحقيق سعادة
الإنسان. إلا ان الإشكال الذي يعتري هذا الطابع الغائي للرغبة. هو أن هذه الغايات
قد تتعدد وتتناقض فيما بينها بتعدد الرغبات. فتنقلب السعادة إلى شقاء والحرية إلى
عبودية. الشيئ الذي يجعلنا نتساءل عن غائية الرغبة كبعد إشكالي يحضر فيه الشيئ
ونقيضه (السعادة والشقاء). بل الأكثر من ذلك أننا قد نسأل عن مشروعية اعتبار
الرغبة مفهوم غائي مادامت هذه الأخيرة في الإعتبار الفلسفي ل"جيل دولوز"
مكتفية بذاتها (غاية ذاتها). وعموما فيمكن إجمال إشكال غاية الرغبة في التساؤلات
التالية:
¨
بأي معنى يمكننا القول بأن الرغبة مفهوم غائي؟ وإذا كان
الأمر كذلك فيما تكمن غاية الرغبة هل في تحقيق السعادة كخير أعظم أم في الشقاء
كنتيجة حتمية للإستسلام للرغبات؟
تحليل نص رنيه ديكارت ص 38
مطلب الفهم
يشكل الإمساك بغاية الرغبة الطابع الإشكالي لهذا المفهوم
بالنظر إلى طبيعته المتعددة والمتناقضة أحيانا. فهناك من الرغبات التي يرى فيها
الإنسان خلاص نفسه وسعادته وعلى النقيض هناك من الرغبات ما يقود الإنسان إلى حتفه
وشقائه. إن هذا الطابع الإشكالي يتولد من كون الرغبة ليس لها شكل وتمظهر واحد،
فالتعدد ينتج عنه التناقض. عند هذا الحد يصير الجهد الفلسفي هو محاولة لتخليص الرغبة
من هذا التضارب بالتأكيد على غاية الرغبة باعتبارها الأفق الذي ينتظم فيه التعدد
ويتوحد. وقد شكل هذا الجهد المجال الإشكالي لمجزوءة الإنسان التي تسعى لتعريف
الإنسان عبر خواصه الماهوية وبالضبط ضمن مفهوم الرغبة كمحدد ماهوي يطرح مفارقة
الغاية على مستوى الرغبة بين السعادة والشقاء. وعموما فيمكن التعبير إشكاليا عن
معطى الغاية بالتساؤل على الشكل التالي:
¨
فيما تكمن غاية الرغبة؟
¨
بأي معنى يمكننا القول بأن غاية الرغبة تكمن في الحب باعتباره الإبتهاج الرئيسي. رغم أن
الرغبة ليس لها شكل واحد؟
مطلب التحليل
يرى ديكارت بأن الرغبات تتعدد وتتنوع بحسب الموضوعات
المتعلقة بهذه الرغبات. وبالنتيجة تتعدد الغايات وتتراتب لعدم التساوي بين الرغبات
فبعضها أشرف وأرقى من البعض الآخر. إلا ان هذا التداعي يصل غايته القصوى في الحب من
حيث هو تعبير عن الإحساس بالبهجة. إذ يكون الحب باعتباره ميل نحو شخص شبيه بنا نظن
فيه الكمال الشكل الرئيسي لكل بهجة. وعليه فإن الغاية القصوى للرغبة إنما تقوم في
الحب بما هو ميل يقوم على المشابهة والتماثل.
من الواضح أن الرغبات الإنسانية لا يتم الإستقصاء فيها
على مثال واحد. فالرغبة بطبيعتها متعددة ومتنوعة بتعدد الأشخاص والموضوعات. الشيئ
الذي يجعل منها خاضعة لمنطق التراتب بحيث لا يمكن أن نساوي مثلا في الرغبة بين
ماهو معرفي وماهو كمالي. فهذا التفاوت على مستوى الرغبات ينتج عنه تفاوت على مستوى
الغايات. الشيئ الذي يجعل بعض الرغبات تتسم بالتقدير في حين يكون البعض الآخر مطبوع بالنفور. وعليه فإن
الغايات تتداعى وتتراتب، إلا ان هذا التداعي لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية فلا
بد من وجود غاية تحتوي جميع الغايات الأخرى. ولعل هذه الغاية القصوى ليست شيئا غير
الحب من حيث هو ميل تلقائي يعبر عن إنسية الإنسان في حقيقتها. فجميعنا يود أن يكون
محبا ومحبوبا. ومن تم فإن هذه الغاية تسمو على باقي الغايات الأخرى.
هذا وقد وظف صاحب النص سلم حجاجي يشكل البناء المنطقي
للنص، إذ يتوزع بين حجة المثال، والإستفهام، والتعريف. أما الحجة الأولى فتتمثل في
النماذج التمثيلية التي قدمها الفيلسوف للرغبة كالفضول وحب الإستطلاع، والمجد،
والإنتقام. من أجل الدلالة على طبيعة الرغبة وموضوعها من حيث أنها متعددة وليس لها
شكل واحد. الشيئ الذي يترتب عنه تعدد الغايات وتراتبها وهو الأمر الذي وضحه
الفيلسوف كذلك بالإعتماد على مثال جمال الازهار والفاكهة. اما ثاني الحجج التي
تكون هذا السلم فهي تلك الكامنة في الإستفهام (فما الرغبة التي تولدها البهجة؟)
التي سعى من خلالها إلى الوصول إلى الغاية للقصوى للرغبة ببحث أسمى أشكال البهجة.
لينهي في الأخير سلمه الحجاجي بحجة التعريف
التي عرف فيها الحب باعتباره ميل ينبثق من الإحساس بالبهجة.
مطلب المناقشة
إن النظر للرغبة من خلال الحب كغاية. بالقدر الذي يتناول
الجانب الفلسفي لغائية الرغبة بالقدر الذي يكشف عن العمق الإشكالي لمعطى الغائية.
فبالرغم مما يتضمنه التصور الديكارتي من قيمة فلسفية تكمن في جعل الحب الغاية
القصوى للرغبة، بحيث تعلو باقي الغايات الجزئية. إلا ان هذا التحديد الغائي يكشف
في الآن نفسه عن حدوده الفلسفية. ذلك أن تعدد الرغبات يستحيل معها وضع غاية نهائية
لهذه الرغبات. فليست موضوعات الرغبة متناهية لذا فإن وضع غاية نهائية خلف منطقي.
ومن تم فإن ما يتحدث عنه ديكارت ليس إلا غاية من ضمن غايات متعددة. ولعل ذلك ما
ذهب إليه "أبيقور" حين اعتبر الغاية القصوى للرغبة هي السعادة عبر تحقيق
اللذة وتجنب الألم. إذ أن جميع الأفعال الإنسانية ترمي الغاية نفسها وهي الحفاظ
على سلامة البدن والنفس غير تجنب الإضطراب والألم. فالعمل وفق هذا المبدأ/الغاية
يجعل الرغبة هي الأخرى لا تنحرف عن هذا السياق إذ تهدف هي الأخرى إلى استشعار
اللذة وتجنيب الذات الألم. إن تصورا مثل تصور أبيقور يتماشى والطرح الفلسفي
لديكارت ذلك أن المنطلق في الرغبات هو تعددها وتنوعها ومنتهى هذه الرغبات هو
السعادة التي يعبر عنها ديكارت بالحب في الحين الذي يعبر عنها أبيقور باللذة.
إن الثابت في هذين الطرحين هو ان الرغبة تعبير عن
السعادة إما في صور البهجة أو اللذة. لكن مثل هذا الإعتبار والتحديد الغائي هو
بمثابة اختزال للأفق الغائي. فما يمكن أن نطلق عليه سعادة كالحي واللذة قد يقود
على النقيض إلى الشقاء، فأن يجعل الإنسان كل غاياته هي تحقيق الحياة السعيدة بما
هي لذة معناه أنه يصير عبدا للذاته وشهواته. والنتيجة هي أن الإنسان يصبح مثله مثل
الحيوان حيث لا تعكس هذه الغاية تعاليه وتفرده. ولعل مثل هذه القراءة النقدية للذة
كأفق للسعادة هو ما يعبر عنه "ابن مسكويه" في كتابه "تهذيب
الأخلاق" الذي ذهب فيه إلى القول بأن المبالغة في تقدير اللذات الحسية
باعتبارها الكمال والسعادة القصوى تجعل من الإنسان أسير رغباته وشهواته. مادام
يجعل كل قوى النفس بما فيها النفس العاقلة وسيلة لخدمة اللذات. إن تقديس اللذة
يجعل من الإنسان عبدا مثله مثل باقي الحيونات التي تجعل كل خيرها هو تحصيل اللذة
الحسية من حيث هي الكمال الأقصى.
مطلب التركيب
حاصل القول ومنتهاه ان الرغبة من حيث غايتها لا تتخذ
شكلا واحدا. بل أشكال متعددة تتوزع بين السعادة سواء في صورة الحب التي تعبر عن
البهجة أو صورة اللذة التي تعبر عن الكمال والخير الأعظم للحياة السعيدة. وبين
الشقاء من جهة أخرى ولعل العلة في مثل هذا التضارب في تحديد الغاية هو التعدد الذي
يطبع الرغبة وموضوعاتها.
0 تعليقات