مفهوم اللغة: مدخل إشكالي
إعداد الأستاذ مراد الكديوى
أرست الفلسفة تعريف تقليدي للإنسان يجعل من الوعي عنصر
الفصل بينه وبين باقي الأنواع الأخرى التي تشاركه الجنس، وفي أحسن الأحوال كانت
الفلسفة بتأثير من فلسفة مابعد الحداثة والتحليل النفسي اللذان أعادا الإعتبار
للجسد وانفعالاته تعترف بالرغبة كمحدد ماهوي للوجود الإنساني. إلا أن هذا الحضور
يعبر عن مساحة من الغياب والإختزال للماهية التعددية للإنسان. فما أغفلته الفلسفة
هو أن هذه المحددات الماهوية لا يمكن أن تحوز مشروعيتها المنطقية والوجودية إلا
بوجود لغة تعبر عن الوعي والرغبة. ولعل جون جاك روسو قد عبر عن هذه المفارقة بين
الحضور والغياب من خلال جعل اللغة شرط العقل. إذ اننا لانستطيع القول بأن الإنسان
يمتلك العقل كخاصية ذاتية له إلا إذا امتلك القدرة على تصنيف الأشياء ضمن أجناس
وأنواع، وهو ما يستدعي اللغة كمحدد ماهوي للوجود الإنساني. وعليه فإن كل الأبعاد
السالفة الذكر بدون اللغة هي معطيات منعدمة الوجود.
الإنسان إذن؛ بهذا المعنى هو حيوان رامز. تشكل اللغة ماهيته.
انطلاقا من هذا الإستنتاج تصير اللغة موضوع بث فلسفي أساسه الحد والتعريف، ثم
التساؤلات التي أطرت البحث في اللغة فلسفيا، على أن ننتهي بتحديد الإشكالات العامة
لمفهوم اللغة. فمن حيث الأساس الأول يمكن تعريف اللغة على لسان "لالاند"
بأنها "كل نظام من العلامات يمكن استعماله وسيلة اتصال (لغة الحركات،
الإيماءات...)". فما يجعل اللغة لغة هو امتلاكها لبنية تركيبة تشكل مجموع
القواعد التي تتأسس عليه اللغة بحيث يمكن التمييز بين الصحيح والخطأ، بالإضافة إلى
وظائفها المتعددة. ومن تم فيمكن حد اللغة بعيدا عن إشكال التعريف من خلال مفهومي
الماهية (فيما تقوم ماهية اللغة؟) والوظيفة (ماهي وظائف اللغة؟). ففي الشق الأول
يمكن استحضار تعريف "دي سوسير" كتعريف ماهوي، فاللغة لديه "نسق
من العلامات والرموز" أي أن ماهية اللغة هي العلامات والرموز". في
حين يمكن استحضار تعريف "ابن جني" كتعريف يجمع بين البعد الماهوي
والوظيفي إذ تكون اللغة "مجموعة من الأصوات التي يعبر بها قوم عن
أغراضهم" فالوظيفة هي التعبير عن الأغراض في حين أن الماهية هي الأصوات.
أما فيما يتعلق بالبث التاريخي للفلسفة في اللغة.
فيمكننا فهم معالمه على ضوء إشكال الوجود والمنشأ ثم الماهية. فأول ما نظرت
فيه الفلسفة في اللغة هو وجودها، أي طبيعة هذا الكائن اللغوي بين المفارقة التي
يكون فيها الإسم مفارق للشيئ وبين المحايثة التي يكون فيها الإسم مرتبط بالشيئ
ارتباطا وثيقا لا يمكن الفصل بينهما. ولعل هذه الإشكالات تجد تمظهراتها في
المحاورات الأفلاطونية حول طبيعة اللغة... أما الإشكال الثاني فمحركه هو السؤال عن
العلة التي أفضت إلى وجود اللغة كضرورة وجودية للإنسان بين تصور يجعل من الحاجة
علة نشأة اللغة كما هو الحال مع كل من "ارسطو" ،و"ابن خلدون"،
و"داروين". وبين تصور يجعل منشأ اللغة مرتبط أساسا بالعواطف
والمشاعر . فليست الحاجات بل المشاعر هي علة اللغة وهو ما يعبر عنه "جان
جاك روسو" في كتابه "محاولة في "أصل اللغات"
بالقول: "لا الجوع ولا العطش انتزع منا أول التصويتات بل الحب والكره
والشفقة والغضب." أما الإشكال الأخير الذي هو الماهية فإن مضمونه يتحدد
ببحث طبيعة اللغة بين كونها فطرية سابقة على الأفراد كما هو الحال مع "نعوم
تشومسكي". وبين كونها محكومة بالتواضع والإتفاق والتعلم كما هو الحال عند
"ابن خلدون".
وعموما فيمكن التعبير عن مجموع التأملات الفلسفية في
اللغة من خلال الإشكالات التالية:
إشكال المشاركة والتفرد: ومضمون هذا الإشكال هو السؤال عن اللغة بين مملكة
الإنسان ومملكة الحيوان. بمعنى ان البحث هنا هو بحث في اللغة بين كونها تعبير عن
التعالي الإنساني وبين كونها تعبير عن المشترك بين الإنسان والحيوان. ويمكن
التعبير استفهاميا عن هذا الإشكال بالصيغة التالية: هل اللغة معنى يقال
بالمشاركة أم بالتفرد؟ بمعنى هل اللغة خاصية مشتركة أم انها خاصية مشتركة بينه
وبين الحيوان؟
إشكال العلاقة بين الفكر واللغة: وفيه نتساءل عن شكل العلاقة بين اللغة والفكر بين
التضمن الذي يجعل من اللغة معطى متضمن في الفكر وبالتالي يكون هذا الأخير اشمل
منها حيث تطرح مسألة عجز الوسيلة/اللغة في التعبير عن الفكر الحي. وبين اللزوم
المنطقي الذي لا يمكن أن نفصل بموجبه بين اللغة والفكر إذ لا يمكن التفكير بدون
لغة. وعموما يمكن التعبير عن هذا الإشكال بالتساؤل التالي: ما طبيعة العلاقة
بين اللغة والفكر؟ هل هي علاقة تضمن بحيث تكون اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر.
أم أنها علاقة لزوم منطقي حيث لا فكر بدون لغة؟
إشكال الوظيفة: وفحوى هذا الإشكال هو التساؤل عن وظائف اللغة
وتمظهراتها بين الوظيفة التواصلية التقليدية والوظيفة السلطوية نتيجة الإرتباطات
التركيبية والإجتماعية والأخلاقية. والصيغة الإستفهامية تكمن في السؤال: فيما
تكمن وظائف اللغة؟ بأي معنى يمكن القول بان اللغة تمارس سلطة على الإنسان؟ وكيف
تمارس اللغة سلطتها هاته؟
0 تعليقات